النقش في الصغر

26 يونيو 2025
وفاء الطجل
النقش في الصغر

النقش في الصغر


المعلم فنان والتعليم فنٌ راقٍ 

كلنا نعرف المثل الشهير: "العلم في الصغر كالنقش على الحجر"، وهو مثل يحمل من المعنى والدقة ما يجعله حاضرًا في وجدان كل تربوي ومهتم بتنشئة الأطفال، ومنه استلهمت عنوان البودكاست الذي أطلقته: "النقش في الصغر"، لما فيه من دلالة قوية على قيمة التعليم المبكر، وعلى الدور العميق الذي يؤديه المعلم والمعلمة في هذه المرحلة. 


من فندق في الصين إلى قاعة الصف 

ذات يوم، كنت في زيارة إلى مدينة صغيرة في الصين، ودخلت بهو أحد الفنادق، انبهرت بمنظر أثار إعجابي رأيت جذع شجرة ضخم – ربما يبلغ طوله ثمانية أو تسعة أمتار، وعرضه يتجاوز المترين – موضوع بشكل أفقي كجدار فني ضخم في البهو ، كان هذا الجذع منحوتًا عليه مئات الأحصنة الصغيرة وهي تركض بدقة وواقعية مدهشة ، تستطيع أن ترى العيون، الشعر، العضلات، وحتى الغبار خلفهم محفورًا بمهارة وحرفية متناهية، تأملت هذا العمل طويلاً، وفكّرت: من الذي أبدعه؟ ترى كم استغرق من الوقت؟ هل عمل عليه شخص واحد؟ أم كان عملاً جماعيًا؟!

لكن ما شدّ تفكيري أكثر هو البداية... كيف كانت الخطوة الأولى؟ ما أصعب ما في هذا العمل؟ هل هو نحت الحصان رقم 500؟ أم الأول؟ بلا شك، كانت البداية – نحت الحصان الأول – هي الأصعب، ومنه انطلقت بقية التفاصيل. 


التعليم المبكر... حفرٌ في حجر ناعم 

هذه الحكاية أثارت داخلي رابطًا مباشرًا بين ما رأيت، وبين عملي التربوي، تمامًا كما أن البداية الدقيقة في النحت هي ما يحدد جودة العمل النهائي، فإن السنوات الأولى من التعليم هي النقطة المفصلية في تشكيل شخصية الطفل ومهاراته ومعارفه، فالمعلم في مرحلة الطفولة المبكرة يشبه تمامًا النقّاش، ذلك الفنان الذي ينحت في مادة خام، يشكّلها ويهذبها بحذر وحب، الطفل هو المادة الخام: ذهن طري، نفس بريئة، فطرة نقية شغف للتعلم ، والمعلم هو الفنان الذي يرى في هذا الطفل صورة مستقبلية، ويسعى لصياغتها بكل وعي وتخطيط. 


لماذا مهنة التعليم المبكر فن راقٍ؟ خبرات بنائية لا متكررة

تكرار العمل لا يعني الملل: كما لا يشعر النقاش بالملل من تكرار النقش والزخرفة، فالمعلم المبدع لا يمل من تكرار الدروس والأنشطة، لأنه شغوف بمهنته ويدرك أن عمله المتكرر كل يوم خبرات تبنى ومهارات تصقل لديه ولدى تلاميذه وهذه الخبرات تنقلهما لمستوى اعلى، فيتقدمان يوم عن يوم لأن كل تفاعل ينقش وفق رؤية بعيدة المدى، فكما يرى الفنان النهاية في ذهنه، كذلك المعلم يرى الطفل لا كما هو اليوم، بل كما سيكون غدًا. يرى الإمكانيات، ويسعى لصقلها. 


اختيار الأدوات المناسبة: النقاش يختار أدواته بعناية. كذلك المعلم يختار استراتيجياته وأنشطته ووسائله بما يناسب احتياجات كل طفل، ويعرف متى يستخدم كل طريقة ولماذا. المعلم المحترف يخلق يوميًا خبرة جديد، تضيف لتلميذه فيصعد سلّمًا ويتقدم في رحلة التعلم.... 


تشير الدراسات إلى أن ثلث نمو الدماغ يحدث في السنوات الثلاث الأولى من عمر الطفل، بل وتستمر هذه الوتيرة السريعة حتى سن السادسة. مما يعني أن السنوات الأولى ليست مرحلة تمهيدية، بل مرحلة تأسيسية حقيقية، تبذر فيها مهارات التفكير، واللغة، والوعي الاجتماعي والعاطفي. ولهذا، فإن معلم ومعلمة الروضة ليسوا فقط ناقلين للمعرفة، بل هم ناقشوا العقول وموجّهو المستقبل. هم من يغرسون حب التعلم، والانضباط الذاتي، والفضول المعرفي. 


ختاماً المعلم فنان والطفل تحفتة، التعليم المبكرة يشبه النقش على الحجر... كل كلمة، كل موقف، كل نظرة، كل تفاعل – ينقش شيئًا في ذاكرة الطفل وشخصيته، والمعلم المبدع لا يرى فقط ما هو أمامه، بل يرى ما يمكن أن يكون، وينحت بيدٍ خبيرة وعقلٍ مفكر وقلبٍ محبّ. 

فهل نمنح معلمي الطفولة المبكرة ما يستحقونه من دعم وتقدير؟

وهل نرى في كل طفل مشروع تحفة قيد التشكيل؟

وهل نؤمن أن النقش في الصغر هو أعظم استثمار في الكِبَر؟