إن تأمل معاني الهجرة النبوية الشريفة مع بداية كل عام قمري جديد، يقودنا إلى التفكير في المعاني العميقة لتلك الحادثة التي مرّ عليها أكثر من ألف وأربعمائة عام، ونستلهم منها خطوطًا عريضة ينبغي أن تكون نبراسًا في حياة كل مسلم.
حريٌّ بنا أن نُحدث أبناء الأمة عن تلك الرحلة النورانية العظيمة التي كانت سببًا في إشعاع نور الهداية على البشرية، لنحكي لهم قصة الرفيقين الفارّين من ظلم الأهل، وظلمة الشرك، وقهر العشيرة، وطغيان الباطل، حين خرج نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم مع رفيق دربه وصديق هذه الأمة. خرجا حزينين، خائفين، مترقّبين، لا يملكان من زاد الدنيا ولا عتادها شيئًا، سوى إيمانهما بالله تعالى، وعزمهما على أداء الرسالة العظيمة.
وكلما خارت القوى، يثبتان بتذكُّر أن الله معهما: "لا تحزن إن الله معنا"، تمامًا كما قال موسى عليه السلام عند اشتداد الأزمة وترقُّب الهزيمة: "إن معي ربي سيهدين".
ما أحوجنا إلى تكرار هذه القصص على مسامع أطفالنا، وتعريفهم بتلك النماذج المؤمنة، واستخلاص مدلولاتها، وحكمها، ومعانيها الجميلة. لنحكِ لهم قصص هجرة الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين؛ فهي قصص لا ينبغي أن تكون حبيسة مناهج المدرسة وحصص القراءة والتاريخ، بل يجب أن يرويها كل مربٍّ لأبنائه، ويستثمر فرصة إطلالة العام لمراجعتها، واستذكار قيم حياتية أساسية.
من المهم أن يعرف كل طفل مسلم أنه لم يكن للمسلمين تقويم خاص بهم قبل العام السابع عشر للهجرة، ويعود الفضل في وضعه إلى الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حيث وصله كتاب من أحد ولاته، أبي موسى الأشعري، يقول فيه إنه يختلط عليه الأمر عند وصول الرسائل ولا يعرف في أي سنة كان الحدث. فبادر الفاروق مباشرة بالتشاور والبحث عن حلول، واستجاب لطلب "اجعل لنا تقويمًا كما لهم تقويم"، وأمر بالبدء في وضع تقويم للمسلمين، وسماه بأهم حادثة كانت نقطة تحول في تاريخ الإسلام، وهي الهجرة النبوية.
لقد اختار هذا الحدث كي نظل نذكر ونتذاكر رموز الهجرة المباركة التي غيّرت مجرى الأحداث، وغرست بذرة الحضارة الإسلامية: هجرة من الباطل إلى الحق، ومن الشرك إلى الإيمان، ومن الجاهلية إلى الهداية، ومن الظلمات إلى النور.
في هذا العصر، ومع كل ما نراه من اختلاط للثقافات، وذوبان للموروثات والقيم، ونرى كيف تُجتثّ جذور الصلة بين أبنائنا وحضارتهم الإسلامية، نجد أن كثيرًا منهم لا يتعامل مع التقويم الهجري في مدارسهم أو حياتهم، لكن لا ينبغي أن يجهلوه تمامًا.
مثل هذه القصص للأبناء تُشكّل دافعًا لبداية قوية في الحياة، مقتدين بأعلام بواسل، ليصبحوا قادرين على مواجهة التحديات وتحقيق الطموحات.
اللهم اجزِ نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم خير ما جزيت نبيًّا عن أمته، وأجزِ صحابته الكرام على ما قاموا به لأجل عزة هذه الأمة. ونسأل الله تعالى أن يُخرج من أمة محمد قدواتٍ صالحين مصلحين.